الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
نَسَبَ ابن بطَّال إلى الشافعية: أن بول الصبي الذي لم يَطْعَم طاهرٌ عندهم، وأنكر عليه الشافعية، وقالوا: إنه نَجِسٌ عندنا إلاّ أَنه يكفي النَّضْح لتطهيره. قلت: ومذهبهم أنَّه إذا رَشَّ الماء على بوله، فقد طَهُرَ وإن لم تتقاطر منه قطرة، فإِنه صار مغلوباً، وحينئذٍ لاذنب لابن بطَّال إن نَسَبَ إليهم الطهارة، فإِنَّ النجاسة إذا لم تخرج بشيء، فكيف طَهُرَت بمجرد كونها مغلوبة، وقال الثلاثة: إنه نَجِسٌ يُغْسَل كسائر الأنجاس، إلا أنه لا يحتاج إلى المبالغة في غسله من الدَّلْك والعصر في كل مرَّة، وصرَّح محمد رحمه الله تعالى في «موطئه»: أن في بول الرضيع رُخْصَةً- أي تيسيراً- وهو مُقْتَضَى الأحاديث، فَوَرَدَ فيه خمسة ألفاظ: أَتْبَعَه بوله، ورَشَّه، ونَضَحَه، وصَبَّه، ولم يَغْسِلْهُ غَسْلاً، كما عند مسلم والآخر صريحٌ في نفي التأكيد. قال ابن عصفور في حاشية «كتاب سيبويه»: إنَّ المجازَ لمّا كان له تطرُّق في لغة العرب كثيراً، وضعوا لدفعه طُرُقاً، منها التأكيد، فقولنا: جاءني جاءني: لبيان أنَّ الفعلَ هو المجيء حقيقةً دون مقدماته. وقولنا: جاءني أمس أمس: لدفع تطرُّق المجاز في الزمان، وقالوا: إنَّ لدفع التطرُّق في الفعل طريقٌ آخر، وهو التأكيد بالمفعول المُطْلَق، وعلى هذا قوله: «لم يغسله غسلاً»: للتأكيد ودفع تطرُّق المجاز، فمعناه أنَّه لم يغسله غَسْلاً مؤكَّداً، وهو الذي أراده بإِثبات الرشّ والنَّضْح، فالنفي والإِثبات يترقيان في المعنى والمآل، فقد عنى بالنفي نفي الغسل مؤكَّداً، وبالأمر أمر الرشّ ومثله. ثم المسألة عند اختلاف الألفاظ ينبغي أن تُؤْخَذ بعد رعاية جميع الألفاظ، فَمَنْ نظر إلى لفظ النَّضْح والرشّ، فقد قطع نظره عمّا يجب عليه النظر إليه، وإنَّما اختلفت الألفاظ في بيان تطهيره، لأنه لم يكن فيه تأكيد، فاستخفَّ أمره، وعبَّر عنه تارةً بالنضح والرشّ، وأخرى بالصَّبِّ، فهذا مجرد تعبير وطريق بيان، لا مسألة منضبطة، وهكذا إذا يستخفُّ الأمر تَرِد فيه التعبيرات بكل نحو، ومن ههنا يُسْتَفاد الرخصة. ثم في «الدُّرِّ المختار» مسألةٌ سها فيها صاحبه وهي: أنَّ العَصْرَ إنما يُشْتَرط إذا غسل الثوب في الإِجَّانة، وإلاّ كفى له الصَّبُّ ولو لم يَعْصِرْه. قلت: وهو سهوٌ بيِّن، فإِنَّ هذه المسألة كانت في النجاسة المرئية، فنقلها في غير المرئية أيضاً، كم في «الخلاصة»، والعجب من ابن عابدين حيث لم يتعقَّب عليه. ثمَّ إن الطَّحَاوِي أجاب من لفظ الرَّشِّ بوجهٍ آخر، وقال: إنما أراد بالنَّضْح صَبَّ الماء عليه، فقد تُسَمِّي العرب ذلك نَضْجاً، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلّم «إني لأعرف مدينة يَنْضِحُ البحر بجانبها» فلم يَعْنِ بذلك النَّضْح الرَّش، ولكنه أراد يَلْزَقُ بجانبها. انتهى. قلت: والنَّضْح في الأصل: إسالة الماء وقتاً فوقتاً، شيئاً فشيئاً، بخلاف الصَّبِّ: فإِنَّه إسالة الماء دفعة، ولذا يُقَال للإِبل الذي يُحْمَل عليه الماء للاستسقاء: النَّاضِح، لأنه يجيء بالماء وقتاً فوقتاً، وإن كان الماء عليه كثيراً، فالإِنصاف أن النَّضْح في الثوب هو بمعنى الرَّش دون الصَّب وإن لم يكن في البحر، والنَّاضِح كذلك، وهذا لتفاوت مَقَام وَمَقام، فنَضْح البحر وإن كان أَزْيَد من الصَّب والإِسالة، لكن نَضْح الثوب لا يكون كذلك، بل يكون بمعنى الرَّش، لأن نَضْح كل شيء بحَبَسه، فقلة الماء وكَثْرَته في البحر ليس مأخوذاً في نفسه اللفظ، بل هو لأجل المقام. وأما النَّضْحُ لغةً فمعناه: رشُّ الماء شيئاً فشيئاً فقط، وإن كان نَضْح البحر صَبّاً، فاعلمه. وعفى الله عن النووي حيث قال: والأحاديث الصريحة تَرُدُّ على أبي حنيفة، مع كون ثلاثة ألفاظ من الخمسة لأبي حنيفة رحمه الله تعالى: «أَتْبَعَهُ بوله»، و «صَبَّه» و«لم يَغْسِله غَسْلاً»، على أن لفظ النَّضْح وَرَدَ في تطهير دَمِ الحيض، كما سيأتي، فلم يقل هناك أحد بالتخفيف، كما في بول الصبي.
واعلم أنَّ الشارحينَ توجَّهوا إلى أنه لِمَ لَمْ يخرِّج حديث البول قاعداً مع ذكره في الترجمة؟ قلت: وإنَّما لم يخرِّجه لشهرته، وإنما عمَّم في الترجمة دفعاً لتوهم الاقتصار. وفي الشامي: أنه جائز. قلت: وينبغي التضييق فيه في زماننا، لأنَّه صار من شعار النصارى، ولا ينزل عن كراهة التنزيه. أما بوله صلى الله عليه وسلّم قائماً، فمحولٌ على الأعذار. ففي «المستدرك» للحاكم: أَنه كان لوجع في مَأْبِضِه- أي باطن ركبتيه وإسناده وإن كان ضعيفاً، إلاّ أنَّه يصلح لبيان الاحتمالات. وعن الشافعي رحمه الله تعالى: أنَّ العربَ كانت تَسْتَشْفي لوجع الصُّلْب بالبول قائماً. وأحسن الوجوه أَنْ يُقال: إن السُبَاطَةَ تكون مُلْقَى الكُنَاسَة، وتكون مخروطية في أكثر الأحوال، فلو بال قاعداً ارتد إليه بوله. وأمّا بوله بقُرْب الدّور مع أن المعروف من عادته الإِبعاد، فذكر القاضي عِيَاض رحمه الله تعالى: أنَّه كان مشغولاً بأمور المسلمين، فلعلَّه طال عليه المجلس، وحَفَزَه البول، فلم يمكنه التباعد، ولو تباعد لتَضَرَّر. ويُسْتَفَاد من الحديث: أنه يجوز البول في الصحراء بدون الاستئذان من صاحبها. قال السيوطي رحمه الله تعالى في «حاشية النَّسائي»: إن تثليث الوضوء سنةٌ، وتركَه مكروهٌ تحريماً. وأمَّا تركه صلى الله عليه وسلّم التثليث تارةً، فهو موجبٌ للثواب في حقه، فإن البيان واجبٌ عليه، والإتيان بالواجب موجبٌ للثواب قطعاً. قلت: بل ترك التثليث ليس بمكروهٍ لأحدٍ من الناس عندي بشرط أن لا يتركه أزيد مما ثَبَتَ عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم ولا يَعْتَاد عليه. 225- قوله: (خلف حائِطٍ)... إلخ، والحائط كانت أمامه. 225- قوله: (فقام كما يقوم)... إلخ، تشبيهٌ في أصل القيام لا غير. قوله: (فأشار إليَّ)...إلخ، ويُسْتَفَاد منه: أنَّ الكلامَ في هذا الحال مما لا ينبغي، ولذا اكتفى بالإِشارة وما عند مسلم فقال: «أدْنُه- باللفظ- فَدَنْوَت...» إلخ، لعلَّه روايةٌ بالمعنى، والمُتَبَادَرُ أنه لم يتكلَّم في تلك الحال. ومنع مولانا الكَنْكُوهِي رحمه الله تعالى رَدَّ السلام حالة البول، ووسَّع فيه عند الاستنزاه والاستبراء والاستنجاء بالمَدَر. ومنعه مولانا محمد مظهر رحمه الله تعالى في حالة الاستنجاء أيضاً.
أشار إلى أنَّ البولَ عند السُّبَاطة ممّا لا يحتاج إلى الإذن من صاحبه لكونه معلوماً عُرْفاً. 226- قوله: (يُشَدِّد)... إلخ، فإِنَّه كان يَبُول في القَارُورَة اتقاءً عن الرِشَاش. 226- قوله: (قُرَضَه)، وفي بعض الروايت الصحيحة: «قَرَض الجلد» أيضاً كما مرَّ، وقد تحقَّق عندي أنَّ هذا القَرْض يكون في القبر تعذيباً، لا أنه كان في لدنيا تشريعاً، وإن كانت ألفاظ الرُّوَاة تشْعِر بخلافه، وأظُّن أنَّ العذابَ منه في هذه الأمة أيضاً من بقاياه، والله تعالى أعلم. 226- قوله: (فقال حذيفة رضي الله عنه) ردٌّ على تجاوزه عن الحد، لا أمرٌ بالبول قائماً.
انعقد الإجماع على نجاسته، ولذا عبَّر بالغَسْل، وهكذا فعل في البول والمَذِيِّ والمَنِيِّ، فقال: باب ما جاء في غَسْل البول كما مرَّ، وقال: باب غَسْل المَذِيِّ والوضوء منه، وقل: باب غسل المَنِيِّ وفَرْكِهِ، كما سيأتي. فهذا دليلٌ على أنَّه ذهب إلى نجاسة المَنِيِّ على ما أرى، وفي عامة كتبنا؛ أنَّ المسفوح نَجِسٌ، وغير المسفوح ليس بَنجِسٍ، وبحث فيه شارح «المُنْيَة» في الكبيري، وجمع الشَّوْكَاني فقهه في رسالة سمَّاها «الدُّرر البَهِيَّةً»، ووضع فيها مسائل أخشى على العامل بها أن لا يُغْفَر له، منها: طهارة جميع الأشياء سوى دم الحيض، وغائط الإِنسان، وبوله. وقال: إنَّ شَحْم الخنزير ليس بحرامٍ، لأن القرآن سمّى لحمه حراماً، والشحم ليس بلحمٍ، فلا يكون حرماً، ونعوذ بالله منه. 227- قوله: (وَتَنْضَحُهُ)... إلخ، وقد مرّ أن النِّضْح ههنا بمعنى الغَسْل عند الكل، وهو المراد عندنا في بول الصبي، فَشاكِلَتُه عندنا من ههنا إلى هناك واحدة، بخلاف الشافعية رحمهم الله تعالى. 228- قوله: (أُسْتَحَاض) بضم الهمزة وفتح المثناة مجهولاً، وهكذا يُقْرَأ، لأن الاستحاضة ليست من صنعها وإنما تلقى عليها من أسباب سَمَاوِيَّة. ومعناه: أنه استمرَّ بي الدم، فلا يَرْقَأ، ولا تريد به الاستحاضة الفقهي: وهي الدماء التي تَنْقُص من عادتها أو تزيد عليها، وأهل اللغة لا يفرِّقون بين الدماء الفقهية، ويقولون: حاضت المرأة، إذا جاء الدم على عادتها، وإذا غَلَب عليها يقولون: أُسْتُحِيضَت، ثم الفقهاء يفصِّلونها إلى دم الحيض والاستحاضة، وهو موضوعهم. وأما اللغويون، فيحكمون على المجموع أنه استحاضة. 228- قوله: (فلا أَطْهُرُ) أي حِسّاً، ولم تُرِد به الطهارة الشرعية، بل معناه لا أَطْهُر حِسّاً،ولا أزال أتلطَّخ بالدماء لأجل جَرَيان الدم، فلا أَطْهُرُ حِسّاً. والشريعة قد تَحْكُم بالطهارة حال النجاسة الحِسِّية كالمعذور، وقد تحكم بالنجاسة مع الطهارة الحسِّية كالطُّهْرِ المتخلل، فهذه من اعتبار الشرع، فلا تريده، وإنما أرادت: أنَّ دمها غَلَبَ عليها فلا يسكن، ومنعها عن صلاتها، وبه يرتبط الجواب، لأنها لو كانت تَعْلَمُ أنها استحاضة، لم يكن فيه إشكالٌ. وإنما أَشْكَل عليها الأمر، لأنها إذا استمر بها الدَّمُ لم تستطع أن تتبيَّن حَيْضَها من استحاضتها، فسألت صاحب الشرع. 228- قوله: (إنما ذلك دم عِرْقٌ)... إلخ، وهذه عِلَّةٌ منصوصةٌ تدلُّ على أنَّ الخارج من غير السبيلين أيضاً ناقضٌ، لأنه علَّلها بَكونها دم عِرْق، وإنما تحقَّق خروجه عن إحدى السبيلين لخصوص المقام، وإدارةُ الحكم على السبيلين في هذا المقام تركٌ للمَنْطُوق، وأخذٌ بالمسكوت، وهو كما ترى. وما قاله الحافظ رحمه الله تعالى: إنَّ المقصودَ من قوله: «إنه دم عِرْق»، توكيدٌ لعدم كونه دم الحيض، وليس بياناً لكونه ناقضاً، يأباه السياق أيضاً. ثم إن الحافظ ابن تيمية رحمه الله تعالى أيضاً موافقٌ للشافعية رحمهم الله تعالى في عدم النقض من الخارج من غير السبيلين، مع أن أحمد رحمه الله تعالى نصَّ على نقض الوضوء من الرُّعَاف، وقد مرَّ التصريح به. 228- قوله: (فإذا أقبلت حيضتُك) بالفتح وبالكسر يوميء إلى التميز بالألوان. واعلم أنه لا عِبْرة للألوان عندنا في أيام الحيض، فما تراه من السَّوَاد إلى الكُدْرَة يكون كلها حيضاً. وذهب الإِمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى اعتباره، فجعل الأحمر الشديد والأسود منه حيضاً، ولم يَرَ باقي الألوان حيضاً. ولفظ الإِقبال والإِدبار يؤيده، فإِنه يُعْلَم منه أن دم الحيض دمٌ متميِّزٌ بنفسه، يُعْرَف إذا أقبل وإذا أَدْبَر. فالإحالة على الدم مُشْعِرٌ بأن دم الطمث مُغَايِر لدم الاستحاضة بنفسه، ومُتَمَيِّزٌ كَتمَايُز سائر المَاهِيَّات، ولذا اكتفى بالإحالة على الاسم، لأنه كان من الأشياء المتميِّزة بنفسه، كما في رواية: «فإِنه دمٌ أسود يُعْرَف». قلت: ولا ريب أن الألفاظ المذكورة أقرب إلى نظرهم، إلا أنَّه يَصْدُق على مذهبنا أيضاً، فإِنه يمكن أن يُعْرَف الإِقبال والإِدبار باعتبار عادتها، فإذا جاء أوانُ حيضها ودَمِيت، فقد أَقْبَل حيضها، وإذا مضى زمان الحيض، فقد أَدْبَر، ثم أقول: إن في الباب لفظ آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر مستحاضة أن تَنْظُر عِدَّة الليالي والأيام الي كانت تحيضهنَّ من الشهر، فهذا إحالةٌ ظاهرةٌ على عادتها بدون تفصيلٍ بين الدماء وألوانها، وإن كان يَسُوغ لهم أيضاً أن يحملوه على التمييز، إلاّ أنَّ المُتَبَادر منه عدمه. فالحاصل: أنَّ العُنوانَ الأول أقرب إلى الشافعية، والعنوان الثاني أقرب إلى الحنفية، وإن أمكن حَمْل أحدهما على الآخر، ولذا وَضَع أبو داود ترجمة بهذا اللفظ، وترجمة أخرى بذاك، لينبِّه على أنهما يُنْبئان عن النظرين. وأما قوله: «فإِنه دمٌ أسود يُعْرَف»، فقد أخرجه النَّسائي في موضعين، وأشار إلى إعلاله، وفي «العلل» لابن أبي حاتم: أنه مُنْكَرٌ. وحكي الطَّحَاوي عن أحمد رحمه الله تعالى في «مشكلة»: أنه مُدْرَجٌ. وإن سلَّمنا، فهو محمولٌ على الأغلب، لا أنه هو المَحَطُّ كما فَهِمُوه. والذي تبيَّن لي أن الأمر في حديث فاطمة بنت أبي حُبَيْش إنما يَدُور على العادة دون التمييز، وإن كان لفظ الإِقبال والإِدبار أقرب إلى التمييز، لأنه أخرجه البخاري بعينه في باب إذا حاضت في شهر ثلاثَ حِيَض، وفيه: «ولكن دَعِي الصَّلاة قدر الأيام التي كنتِ تَحِيضِينَ فيها» مكان الإِقبال والإِدبارد فاتِّضحَ أنَّ الراوي لم يَقْصِد إِلا التَّفَنُن في العبارات، ولم يُرِد من قوله: «أقبلت وأدبرت» معنًى زائداً عمَّا في قوله: «قدر الأيام التي كنت تَحِيضين فيها»، فالأمر أنها كانت مُعْتَادة تعرف الإِقبال والإِدبار بحَسَب عادتها، لا أنها كانت تْعتَبر بالألوان وإلا لَمَا اختار التعبيرَ المُخِلَّ بالمراد. 228- قوله: (فاغسلي عنكِ الدم)، المراد منه غَسْل اللَّوْث دون الغَسْل الذي هو فرض بالإِجماع، وهو مرادٌ قطعاً وإن لم يُذْكَر في هذا الطريق، وصحَّ فيه لفظ: «توضيء»، وإن تردَّد فيه مسلم. وقال: وفي حديث حمَّاد بن زيد زيادةُ حرفٍ تركنا ذكره. قلت: بل هو صحيحٌ بدون تردّد كما أثبته الطَّحَاوي، وأخرج له مُتَابعات أيضاً، فلا تفرُّد، فيه ولا ترُّدد. وأقرّ به الحافظ رضي الله عنه أيضاً: ثم الإِسناد الذي أخرجه الطَّحَاوي فيه أبو حنيفة، ومرّ عليه ابن سيد الناس في «شرح الترمذي» وصحَّحه. وهكذا استشهد أبو عمرو في «التمهيد» بطريق أبي حنيفة والحافظ رحمهما الله تعالى. وإن أقرّ بتلك الزيادة، إلاّ أنه لم يَسْتَعِن بهذا الطريق، ونحن نفهم ما يريد، فافهم أنت أيضاً، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله. والحاصل: أنَّ الأمر بالوُضُوء ثابتٌ فيه، ثم هو محمولٌ على الوُجُوب عندنا، وعلى الاستحبااب عند مالك رحمه الله، لأن عُذْر المْعذُور لا يَنْقُضُ طهارته عنده، ولذا تصدَّى بعض المالكية إلى إسقاطه، والله تعالى أعلم. ثم ههنا خلافٌ آخر، وهو: أنَّ وضوءَ المَعْذُور للصَّلاة أو للوقت؟ فعند الشافعية للصَّلاة، وعندنا للوقت، فالمستحاضة إذا توضَّأت تصلِّي في الوقت ما شاءت من الفرائض والنوافل، ولا تَبْطُل طهارتُه بهذا العُذْر. وتمسَّك الشافعية بلفظ: «لكل صلاةٍ»، فإِنَّه صريحٌ في أنَّ طهارته اعْتُبِرت في حقّ الصلاة خاصةً، وأجاب عنه الحنفية: بتقدير المضاف، ومعناه: لوقت كل صلاة. قلت: وأخرج العَيْنِي رحمه الله لفظ: «الوقت» عن «المغني» لابن قُدَامة، وإذن لم يَبْقَ هذا تأويلاً مع أنه لا حاجة إليه أيضاً، لأنه شاع في الدُّور الإِسلامية توقيت الأمور بأسامي الصلاة، فتقول: آتيك الظهر، وآتيك العصر، تريد وقته، فقوله: «لكل صلاة» صادقٌ فيما كانت طهارته للوقت أيضاً، ولعلّك فَهِمْتَ أن بين حذف المضاف وبين ما قلنا بَوْن بعيد، والفصل عندي: أَنّ الحديثَ صالحٌ للطرفين، ولا يتعيَّن لأحدٍ منهما. والمسألة من مراحل الاجتهاد، لأنه لو ثَبَتَ لفظ وقت الصلاة، لم ينفصل منه الأمر أيضاً، لأنه يجري البحث بعده في السبب: هل هو الصلاة أو الوقت؟ ويَسُوغ لهم أن يقولوا: إن اللام للظرف، فوقت الصلاة ظرفٌ للوُضُوء لا سببٌ، وإنما السبب هو الصلاة، كما في قولنا: أتيت فلاناً لخمس مَضَيْنَ من رمضان، فإِن اللام فيه للظرف، لا للسبب، فالوُضُوء يجب على المْعذُور لأجل الصلاة في وقتها عندهم، فصحَّ ما في «المُغْني» «لوقت كل صلاة» على مذهبهم أيضاً، ولذا قلتُ: إن المسألة مفوَّضة إلى الاجتهاد، ولا تدخُلَ تحت النص. ونظر الإِمام الهُمَام رحمه لله تعالى فيه: أنَّ العِبْرَةَ للوقت دون الصَّلاة، كما أنَّ العِبْرةَ في الجنون والإِغماء أيضاً للوقت، فَمَنْ جنَّ في رمضان بعدما أدرك جزءاً منه، يَلْزَم عليه قضاء رمضان بتمامه. وكذا من أُغْمِي عليه، وأحاط إغماؤه يوماً وليلةً، يسقط عنه قضاؤها، فالجنون والإِغماء عذران اعْتُبِرَ فيهما الوقت أيضاً، إلاّ أنه أخذ في الإِغماء وظيفة اليوم والليلة بتمامها، لأنه فَهِمَ أن بين الصلوات الخمس ربطاً، ولذا قال: إن الترتيب بين الفوائت مستحقٌ، وأخذ في باب الصوم وظيفة الشهر، وأَلْزَم كلَّه بإِدراك بعضه فالشهر في الجنون كالصلوات الخمس في الإِغماء، فمن لم يُدْرِك جزءاً من الشهر، وأحاط به الجنون جميع الشهر، فإِنه لا يَقْضي، كمن أحتاط بِه الإِغماء يوماً وليلةً. وهكذا في مسألة الرَّجْعَة قالوا: لو انقطع دمها على العشرة، فإِنها تخرج عن عِدَّتها بمجردٍ مُضِيِّ الحَيْضَة الثالثة، وإن انقطع لأقل من العشرة، فإِنها تنتظر قدر الغُسْل، فاعتبروا فيها الوقت أيضاً. والظاهر أَنَّ البحث فيما إذا انقطع الدَّمُ لأقل من العشرة، أنَّ انقطاع حقّ الزوج- وهو الرجعة- يَنُوط بأمرٍ سماويّ- وهو الوقت- أو بفعل اختياري، كغسل المرأة، والذي فَهِمُوه أن إحالته على أمر سماوي أَوْلَى، وهو الوقت، بخلاف الفعل الاختياري، فإِنَّ إبطالَ حقًّ مِنْ فعل أحدٍ غيرُ معقولٍ فلم يَعْتَبِرُوا فيه فِعْلَها- وهو الغُسْل- بخلاف الوقت، فإِنه أمر سَمَاوِيّ، ورَاجِعْ فيه كلام الطحاوي من كتاب تلميذه أبي جعفر النَّحَّاس، فإِنه أجود وأحسن، ولا يمكن تلخيصه. وإذا عَلِمْتَ أن الإِمام اعتبر الوقتَ في حميع هذا الباب، سَهُلٌ عليك أن تَعْتَبَرِه في طهارة المَعْذُور، فطهارته أيضاً تَدُور بالوقت دون الصلاة، فإِنها فِعْلُه بخلاف الوقت، فإِنه أمرٌ سماوي، وأمارةٌ للصلاة، وهو الذي يُسْتَفَاد من الشريعة، فإنَّ المَعَذُور لا يزال ينتظر الوقت، فإِذا بلغ آخره يتوضَّأ ويُصَلِي، والحاصل: أنَّهم اعْتَبَرُوا في الجنون الشهرَ كلَّه، وفي الإِغماء اليومَ والليلةَ، وفي المَعْذُور وقتَ الصلاة الواحدة كلَّه، فهو من مراحل اجتهادٍ لا غير. تنبيه: وأعلم أنه قد ثَبَتَ في المُسْتَحَاضة الغُسْل لكل صلاةٍ، والحمع بين الصلاتين في غُسْل واستبعده الشَّوْكَانِي، وقال: إن الغُسْلَ لكل صلاة أمرٌ غسيرٌ مما لا يمكن أن يَأْمُرَ به الشرع، وهو مما لا يُصْغَى إليه، فإِنَّه ثابت قطعاً، كما قاله الحافظ رحمه الله تعالى، وأقرَّ به أبو داود، الدارمي: «أنَّ امرأةً مستخاضةً سألت ابن عباس رضي الله عنه عن نفسها، وكانت مُتَحَيِّرَة، فأمرها أن تَغْتَسِلَ عند كل صلاةٍ، فقيل له: إن فيه مَشَقَّة قال: لو شاء الله لشق عليها أزيد منه»، وبمثله أفتى علي رضي الله عنه، أمَّا تعدُّد الغُسْل للمُعْتَادة والمُبْتَدئة، فحمله الطحاوي على التبريد، وتقليل الدَّم، ودفع تقطيره، وهو المُسْتَفَاد بأمره زَيْنَب أن تَجْلِسَ في مِرْكَنَ... إلخ. والغُسْل لكل صلاةٍ أقطعُ للتقطير، فإِنْ تَعَسَّرَ، فالجمع في غُسْلٍ، وإلا فالوضوء لوقت كل صلاة، وهو الواجب عليها، أمَّا سائر الغسلاة فمستحبةٌ لها.
واختار المصنِّف رحمه الله تعالى نجاسة المَنِيِّ كما هو مذهب الحنفية، ووضع تراجم ثلاث تَتْرَى تدلّ على هذا المعنى، فذكر فيها غسله، كما ذكر غسل البول والمَذِيِّ، وكذا في الباب التالي ولم يومىء إلى طهارته وعدَّه مع سائر النجاسات في الباب الآتي: باب إذا أُلْقِيَ على ظهر المصلِّي... إلخ، وفيه: «وفي ثوبه دمٌ أو جَنَابةٌ، أي مَنِيّ، إلخ، فَعادَل بين الدم والمَنِيِّ، وسَوَّى بينهما، فدلّ على كونه نجساً عنده. ثم اعلم أنَّ فقهاءنا رحمهم الله تعالى وضعوا للتطهير أنواعاً: فالاستجمار في السبيلين، والدَّلك في الخُفَّين، والمسح فيما لا تتداخله النحاسة، والجفاف في الأرض، الفَرْك في المَنِيِّ، فهو تطهير له عند الشرع، وإن لم يكن منه القَلْع بالكلية، فقد لا يمكن بالماء أيضاً، كما هو المُتَبَادر من حديث عائشة رضي الله عنها الآتي، وفيه: «ثم أراه فيه بقعة أو بُقَعاً»، لأنَّ الظاهر أن الضمير رَاجِعٌ إلى المَنِيّ، وفي فقهنا: أنه يجب إزالة الرائحة واللون إلاّ ماشقَّ منها، وحينئذٍ لا بأس إن أردنا من الماء: هو المَنِيُّ، ومن البقعة: بقعته، مع أن المُتَبَادَرَ من لفظ الماء: المعروف، ومن البقعة: بقعة الماء، وحاصله عندي: أنه كان يَذْهَبُ إلى المسجد مع بقاء أثر الغَسْل في ثوبه. ولم يكن يَنْتَظِر الجفاف. والألفاظ الواردة فيه ثلاثةٌ: الأول: «وإن بُقَع الماء في ثوبه» يقع الماء مبتدأ، وفي ثوبه خبره. والثاني: «وأثر الغَسْل في ثوبه». والثالث: «ثم أراه فيه بقعة». وهذا الأخير هو الظاهر في مرادهم، إلا أنه لا ينبغي أخذ المسائل من ألفاظ الرُّوَاة لا سِيَّما عند اختلاف ألفاظهم، وكانت المسألة من الحلال والحرام، أو من باب الطهارة والنجاسة، وكذا لا مُسْكة لهم في لفظ الفَرْك، والمسح، والسَّلْت الواردة في هذا الباب، فإِن بعضها تطهيرٌ له، والبعضَ الآخر تقليلٌ في الحالة الراهنة، وإزالةٌ لجُرَمه المُتَقَذَّر وسَتْرُه عن أعين الناس. كذلك رَدَّ البعض بالبعض في المُخَاط في الثوب حالة الصلاة، مع أنَّ النجاسةَ القليلةَ عفوٌ عندنا، ثم لا دليلَ على أنه صلّى في الثوب الذي مسح عنه المَنِيَّ، ولم يَغْسِلْه، فلا دليلَ لهم في الأحاديث، ما لم يأتوا بما تكون صريحةً في أنَّه صلّى في الثوب حال كون المَنِيِّ فيه ولم يَغْسِلْه، واكتفى بالمسح السَّلْت. والعَجَب منهم حيث يحكمون بنجاسة المَذِيِّ، ويُوجِبُون الغُسْلَ بخروج المَنِيِّ، ومع ذلك ذَهَبُوا إلى طهارته.
نُسِبَ إلى البخاري أنَّه اختار في النحاسات: مذهب داود الظاهري، كما نقله الكَرماني. أقوله: أمَّا أنا، فلا أقولُ إلاّ بَقْدرِ ما يظهر من عبارته، وأَسْكُتُ عَمَّا سَكَتَ عنه البخاري، لأنه لا يَلْزَم باختياره بعض جزئيات الظاهرية، اختيار جميعها. وأمَّا الشَّارِحُون فيكتفون بالحكم الإِجمالي، فإِذا رأوا أنه وَافَقَ أحداً في بعض جزئياته، يحكُمُون عليه أنه اختار مذهب فلان، مع أنه مَجْتَهِدٌ في الفقه، فيأخذ ما شاء من مسائلهم، ويترك ما شاء، وليس من لوازم اختيار البعض، اختيار الكل. ثم اعلم أنه نُسِبَ إلى الظاهرية: طهارة الأبوال والأزبال مطلقاً، غير عَذِرَة الخنزير والكلب والإِنسان، ولم يتحقَّقَ عندي مذهبه، لأنَّ ابن حَزْم لمَّا مرَّ على حديث: «صلُّوا في مَرَابِض الغنم، ذهب إلى أنَّه منسوخٌ، والناسخ: ما وَرَدَ في تطييب المساجد، وهذا يُشْعِرُ بنجاسة أزبالها عنده. كيفما كان، لا أحبُ أن أعزُو إليه مذهب الظاهرية، فإِن شأنه أرفعُ منه عندي، فالذي يظهر من تراجمه: أنه أخذ الأبوال في الإِبل، وترك الأزبال. وسمَّى بالإِبل لحديث العُرَنِييِّن عنده، ثم زاد لفظ الدواب من عنده، وليس عنده دليل عليها من الحديث، فأبهمه، وهو تعميمٌ بعد تخصيصٍ لدفع توهُّم الاقتصار على المنصوص. والظاهر عندي: أَنَّه أراد منها المركوب من الحيوانات، ثم زاد عليه «الغنم» للحديث عنده فيها، فما كان له دليلاً عنده سمَّاه، وما لم يكن له دليلاً من الحديث أبهمه، ثم إنه لم يُفْصِح بالحكم بأن تلك الأبوال طاهرةٌ أم نجسةٌ؟ لأنه من عاداته أنَّ الأحاديث إذا صَلُحت للطرفين، يُحِيلُ الحكمَ إلى الناظر، ولا يَجْزِم بجانبٍ إلاّ عند حاجة. قوله: (مَرَابِضها).. إلخ، دخل في مسألة الأزبال، ولم يُعَيِّن من الحيوانات غير الإِبل والغنم المذكُورَيْن في الحديث. قوله: (وصلّى أبو مُوسَى)، والمُتَبَادَرُ من هذا الأثر: أنَّه اختار الطهارة. قوله: (والسِّرْقِين)... إلخ، يعني أنَّه لو أراد أن يَتَنَحَّى عن السِّرْقِين لوَسِعِه، فإِنَّ الأرض الطاهرة كانت بجنبه، إلاّ إنَّه لم يُبَال به مبالاةً، وزَعَم أنَّ: ههنا وثَمَّ سواء. لا دليل في قوله: «في السِّرِقِين» على أن الصلاة كانت على السِّرْقِين، فإِنَّ الظرفية مُوَسَّعَة. وسيجيء في البخاري: أنَّ البعيرَ كان خارج المسجد، وعَبَّر عنه الراوي أنَّه كان في المسجد. واعلم: أنَّ بول الإِنسان وعَذِرَته نَجِسٌ بالإِجماع. واختلفوا في أبوال مَأُكُول اللحم وأزبالها. فذهب أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعلى إلى نجاستهما. واختار مالك رحمه الله تعالى، ومحمد بن الحسن في روايةٍ طهارتهما، وهو مذهب زُفَر. وتمسَّك القائلون بطهارة أبوالها من حديث العُرَنِيِّين، حيثُ أَبَاحَ لهم النبي صلى الله عليه وسلّم شربها فلو كان نَجِساً لَمَا أمرهم بشربها. وتمسَّكُوا في مسألة الأزبال من إباحته للصلاة في مَرَابِض الغنم. فلنبحث أولاً في حديث العْرَنِيِّين بما فيه، ويَظْهَر في ضِمْنِه جواب الخصوم أيضاً. فنقول: أنَّ في حديث العُرَنِّيين أربعة مباحث: البحث الأول في طهارة الأبوال ونجاستها، والثاني في جواز التدَّاوي بالمحرَّم، والثالث في مسألة الحدود، والرابع في المُثْلَة. أمّا البحث الأول، فنقول: إن حديثهم إنما يَصْلُح حُجَّةً للطهارة، إن ثَبَتَ أن إباحة الشرب كانت على معنى الطهارة، وإن كانت تَدَاوِياً، فلا دليلَ فيه على الطهارة أصلاً، فإِنه يَجُوزُ أن يكونَ الشيءُ حراماً في نفسه، ثم يُبِيحُه الشارع لأجل الضرورة. وما يَتَبَادَرُ من ألفاظ الرواة هو أنه كان لأجل التَّدَاوِي، لأنهم ذكروا في السِيَاق مرضهم. وقالوا: «فاجْتَوَوُا المدينة، فَعُلِم أن الأمر بشرب الأبوال إنما كان استشفاءً. ولا إيماءَ في لفظ الحديث إلى أن بناءه مكان على الطهارة. وأيضاً عند البخاري، في باب ألبان الأُتُن قال: «كان المسلمون يَتَدَاوَوْن بها- أي بأبوال الإِبل- ولا يَرَوْن به بأساً». ولِمَا عُرِف من أمر المسلمين أنهم كانوا يَتَدَوَوْن بها، فالأسبق إلى الذهن أن يكون ما في حديث العُرَنِيِّين أيضاً تَدَاوِياً. وفي كلام بعض الأطباء: أَنَّ رائحةَ بول الإِبل تَفِيدُ الاسْتِسْقَاء. وقال ابن سِينَا: إن أَلبانَ الإِبل تَفِيدُه. ثم لي فيه بحثٌ آخر: وهو أنَّ التَّداوي كان على طريق الشُرْب، أو على طريق النُّشُوق، فقد يترشَّح من الأحاديث: أنَّه كان على طريق النُّشُوق، دون الشُرْب. فأخرج الطحاوي عن أنس وفيه: «فقال: لو خَرَجْتُم إلى ذَوْدٍ لنا، فَشَرِ: تُم من ألبانها». قال: وذَكَر قَتَادَة: أنه قد حَفِظَ عنه: «أبوالها». فالرَّاوي فَصَلَ ذكر الأبوال عن الألبان، وهكذا في النَّسَائي أيضاً، وعنده: عن سعيد بن المُسَيِّب: «فَبَعَث رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى لِقَاح ليشربوا من ألبانها، فكانوا فيها». وليس فيه ذكر الأبوال؛ وعنده أيضاً: «فبعثهم النبيّ صلى الله عليه وسلّم إلى ذَوْدٍ له، فَشَرِبُوا من ألبانها وأبوالها»، وليس فيه: أن الشُّرْب كان بأمره، أو بدون أمره. فللباحث أن يُمَعِنَ النظر في أن فصل الأبوال عن الألبان تارةً، والاقتصار على الألبان تارةً، ثم رفع الشرب تارةً، وأخرى عدمه، لِمَ ذاك؟ ثم في بعض الطُّرُق ذكر الألبان مقدّم على الأبوال، هكذا: «وأن يَشْرَبُوا من ألبانها وأبوالها»، كما يُشْعِرُ به ألفاظ الطحاوي والنسائي، وقد مرّت. وحينئذٍ يجوز أن يكون من باب: عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً، ولا تكون الأبوال للشرب، بل يمكن أن يكون الفعل محذوفاً من المعطوف مثلاً: «ويستنشقوا من أبوالها»، وإنما حُذِفَ لتقارب الفعلين، سِيَّما إذا ما رُوِيَ في «مصنَّف عبد الرزاق» عن إبراهيم النَّخَعِي: «أنه لا بَأْسَ بأبوال الإِبل، وكانوا يَسْتَنْشِقُون منها». فَعُلِم أن طريق التَّدَاوِي كان هو النُّشُوق، فيكونُ قرينَةً على حذف الفعل من نوعه، إلاّ أن هذا الأثر عند الطحاوي أيضاً، وفيه: «كانوا يَسْتَنْشِفُون بأبوال الإِبل» بدل: «يَسْتَنْشِفُون»، فوقع التردُّد في لفظ المصنِّف، ثم أن هذا كله ذكرته بحثاً محضاً، وليس بمختارٍ عندي، والظاهر أنهم شَربُوا أبوالها أيضاً، ولكنه كان تَدَاوِياً إن شاء الله تعالى. أما البحث الثاني: فهو أن التَّدَاوِي بالمحرَّم جائزٌ أم لا؟ فكلام نَقَلَةِ المذهب فيه مُضْطَرِبٌ: ففي «الكنز»: أنَّ الأبوال لا تُشْرَب مطلقاً، لا للتَّدَاوِي، ولا لغيره.وفي رَضَاع «البحر»: أنَّ المذهب عدم الجواز، وجوَّزه مشايخنا رحمهم الله تعالى بقيودِ مذكورةٍ في الكُتُب. وفي «المستصفى»: أنه جائز لأجل الضرورة بالاتفاق. ولا أدري أنه أراد به اتفاق الأئمة، أو اتفاق المشايخ، وفي «فتح القدير»: أنه جائزٌ مطلقاً. وفي «الطحاوي»: أنَّه يجوز عند الضرورة بما سِوَى المُسَكِّرَات، ثم لا يُعْلَم أنه تحقيقه، أو مذهب لأحدٍ. وفي «الدُّرِّ المختار» في موضع: عدم جواز التَّدَاوِي إلا بطاهرٍ، وفي موضع آخر عن «النهاية»: يجوز إذا لم ينفع غيره، وشَهِدَ به طبيبٌ وَرِعٌ حَاذِقٌ مُسْلِمٌ. وفي «غاية البيان» للشيخ أمير الكاتب والإتْقَاني: أنَّ أبا يوسف رحمه الله تعالى سأل الإِمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى عن رجلٍ خَرَج في أَصْبُعه خُرَاج، هل يُعَالِجُها بلف المرارة؟ فنَقَل أنه كرهه، فخرَّج منه بعضَ توسيع. قلتُ: ولعلّ المذهب أنَّه لا يَجُوز مطلقاً، فاللفظ من صاحب المذهب كان مطلقاً، وفصَّلَهُ المشايخ إلى الضرورة وعدمها، وخَرَّجُوا التفصيل. وأُرِيدَ من التخريج أنَّهم عَيَّنُوا ما كان مُرَاد الإِمام رحمه الله تعالى.، وفصَّلُوا ما كان أَبْهَمَهُ، لا أنهم خَالَفُوه فكان المذهب عدم الجواز، وجاء هؤلاء فجوَّزُوه في حالة دون حالة. وعندي عليه قرائن: فعند الطحاوي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى: أنه لا بأس بشدِّ السِّنِّ بالذهب، فإِذا حاز شدُّه بالذهب، فالتَّدَاوي بالمحرَّم أَوْلَى. وفي المتون: أَنَّه يجوز شُرْبُ غير الأشربة الأربعة بقَدْر التَّقْوى دون التَّلَهِّي، ولا أدري أنَّ هذه القيود من الإِمام رحمه الله تعالى أو المشايخ؟ فإِن كان من الإِمام، فهو دليلٌ لحوازه عند الضرورة. وعنه: إجازة لُبْس الحرير في الجهاد، فلعلّ في المذهب تضييقاً مع المستثنيات. وأمَّا ما نُقِلَ من عدم الجواز مطلقاً فمحمولٌ على سدِّ الذرائع، ودفع التهاون، ولعلَّهم لم يتحقَّق عندهم الضرورة. وثَبَتَ عند الطحاوي: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم أمر عَرْفَجَة أن يَتَّخِذَ أنفافاً نم ذهب لمَّا أنتن من وَرِقٍ»، وكذا: «أباح للزُّبَيْر بن العَوَّام، وعبد الرحمن بن عَوْف لُبْس الحرير لحِكَّةٍ كانت بهما». وههنا أحاديث كثيرة تدلّ على المنع عند الطَّحاوِي وأبي داود منها: أنه قال: «لا تَدَاوَوْا بحرام». ومنها عند مسلم: «أنها داء ليست بدواء». وعند الطَّحَاوي: «إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم» وأوَّله في «العالمكيرية» بما بَيْنَو عنه السمع. ومعنى النهي عندي: أن يَتَتَبَّع الشفاء من الحرام؛، فلا يَتَدَاوَى من غيره مع وِجْدَان الحلال، فالمطلوب أن لا يَتَدَاوَى من الحرام ما دام تَيَسَّر له الحلال، وإليه يشير لفظ الجعل، فإِنه يُسْتَعْمَل فيما تَصْرفُ فيه عن حقيقته، كما مرّ تحقيقه في الحديث الأول،وبعده في مواضع. قال تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} (الواقعة: 82) يعني أنه ليس رزقاً لكم من الله تعالى، ولكنكم تجعلُونه رزقكم من عند أنفسكم، كذلك الله سبحانه وتعالى جَعَلَ لكم شفاءً في الحلال، وأنتم تَطْلبونه من الحرام، فَتَجْعَلُون الحرام مكان الحلال، أنتم من عند أنفسكم، فهذا تقيبحٌ لهم. وهكذا سائر الأحاديث لا تدلّ إلاّ على كراهة التَّدَاوِي بالمحرَّم، وعدم ابتغائه في حالة الاختيار، وإنما أُطْلِق في اللفط سدّ للذرائع، ودفعاً لتهاون الناس. ثم إنَّه اختار بعضهم أنه ليس في الحرام شفاء أصلاً، وجَعَل يؤوِّل قوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَفِعُ لِلنَّاسِ} (البقرة: 219) بأن المراد من المنافع: هو منافع التجارة دون المنافع البدنية. قلتُ: بل المراد بها المنافع مطلقاً، لا منافع التجارة فقط، لأن ما يكون مأكولاً ومشروباً، تكون ذاتُه مطلوبةً، بخلاف النقود، فإِنها آلةٌ لتحصيل وليست ذاتُها مطلوبةً، فلو أَرَدْنا بها منافع التجارة فقط، ولم نُرِدْ بها المنافع في أنفسها، لأدَّى إلى جعلها في حكم النقود. ثم لا يَخْفَى عليك أن القرآن تعرَّض ههنا إلى مهمٍ تَحَيَّرَتْ فيه الأفكار، وكَلَّتْ منه الأنظار، وهو: أن الشرع إذ يحرِّم شيئاً، فهل يبقى فيه منفعة للبدن أيضاً؟ فتعرَّض القرآن إلى هذا الأصل العظيم: أنه يحرِّم أشياء مع وُجُود المنافع فيها، لأن ضَرَرَها يكون أَكْثَرَ من نفعها، ولذا قال: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} (البقرة: 219) فسلَّم أن فيهما نَفْعاً إلا أن إثمهما لمَّا كان أكبر حَرَّمَهُمَا، هذدا لا يُعْرَفُ إلاّ من جهته، فهو يْعلَمُ أن الإِثم أكبر، أو النفع أكثر، وبيده الميزان يَخْفِضُ ويَرْفَعُ. ثم إنَّ الحديث إن كان محمولاً على التَّدْاوِي، لم تُسْتَنْبَطْ منه مسألة طهارة الأبوال. وإن حَمْلْنَاه على الطهارة، لا تُسْتَنْبَط منه مسألة التَّدَاوِي بالمحرَّم. فليت شعري، كيف أخذ الناس هاتين المسألتين من الحديث؟ مع أنَّه لا يمكن أن يُؤْخَذَ منه إلاّ إحداهما. وأما البحث الثالث، فقال الشافعية رحمهم الله تعالى: إن في الحديث دليلاً على المُمَاثَلة في القِصَاص. قلت: بل هو محمولٌ عندنا على السِّياسة. وعند النَّسَائي في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ}... إلخ (المائدة: 33) أن النبي صلى الله عليه وسلّم دعا عليهم: اللهم عطشٌ من عطش آل محمد». وإنما دعا عليهم، لأنهم لما اسْتَاقُوا الإبل، وكانت فيها ناقته صلى الله عليه وسلّم أيضاً عَطِشَ أهله، كما في السِّيَر، فلهذا الدعاء أيضاً دَخْلٌ في هذا التعذيب، ولذا كانوا يَسْتَسْقُون، فما يُسْقَوْن حتى ماتوا عِطَاشاً. ثم إنهم قَطَعُوا الطريق، واستاقوا الإِبل، وقتلوا الرعاة، فجَنُوا جِنَاياتٍ عديدةً، وفي مثله الخِيَار إلى الإِمام: إن شَاءَ جَمَعَ الأَجْزِيَة، وإن شاء اكْتفَى بالقتل. وَرَاجِعْ كُتُبَ الفقه. أما البحث الرابع فبأنه قَبْلَ النهي عن المُثْلَة لِمَا عند النَّسائي: «أن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يَخْطُبْ بعده خُطْبَة إلاّ نَهَى فيها عن المُثْلَة»، وعن ابن سيرين عند الترمذي: إن هذه الواقعة قبل أن تَنْزِلَ الحدود. وتبيَّن في ضِمْن هذه المباحث: أن لا حُجَّة في الحديث على طهارة الأبوال. وأما مسألة الأزبال: فقد ذهب مالك وزُفَر ومحمد رحمهم الله تعالى في رواية: إلى طهارة أزبال مأكول اللحم، ولا حُجَّة لهم فيما رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلّم «صَلُّوا في مِرَابض الغنم» لأنَّا لمَّا تَتَبَّعْنَا طُرُقه لم نَجِدْ فيه معنىً يُخَالِفُ مذهبنا، فإِن الحديث ما لم تُجْمع طُرُقه، لا ينكشف مُرَادهُ، ويُعْلَم من هذا الطريق: أنَّ الصلاة في المَرَابِض مطلوبٌ أَمَرَ بها صاحب الشرع، ولا يظهر فيه معنى. وهذا الحديث بعينه عند الطحاوي: «أن رجلاً سَأَلَ النبي صلى الله عليه وسلّم أُصَلِّي في مَرَابِض الغنم؟ قال: نعم»، فدلُ على أن الأمر ليس ابتدائياً، بل هو في جواب سائل، فلم تَبْقَ فيه شِدَّة، وانكسرت سَوْرَتُهُ، وعنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: «إذا لم تَجِدُوا إلاّ مَرَابِض الغنم، ومَعَاطِن الإِبل، فصلُّوا في مَرَابِض الغنم، ولا تُصَلّوا في مَعَاطِن الإِبل»، فلم تَبْقَ فيه مطلوبية أصلاً. وعُلِمَ أن أمر الصلاة في المَرَابِض إنما هو عند فُقْدَان مكان سواها، لا أن الصلاة مطلوبة فيها مع وِجْدَان مكان غيرها. ثم ظَهَرَ أنَّ الحديثَ وَرَدَ على عاداتهم، فإِنهم لم يكن عندهم مكانٍ مستوٍ غير مَرَابضهم، وكانت الغنم أعزَّ أموالهم، فكانوا يَسْكُنُون معها، ويَجْلِسُون في مَرَابِضها، ويَتَحَدَّثُون فيها، بخلاف الإِبل، فإِنه لا يَجْلِس في مكانٍ مُسَطَّح، على أنه لا دليلَ فيه على أنهم كانوا يُصَلُّون على الأبوال والأزبال أيضاً، لأنهم لَمَّا كان مَطْعَمُهم ومَشْرَبُهم ومَسْكَنُهم فيها، فلعلَّهم كانوا يْنَظِّفُون مكاناً لأنفسهم، ولصلواتهم أيضاً. ويدلُّ عليه ما عند محمد في «موطئه»، عن أبي هريرة رضي الله عنه: «أَحْسِن مَرَابِضَ الغنم، وأَطِبْ مُرَاحها، وصَلِّ في ناحيته»، ورفعه البيهقي، وأَتردَّد في رفعه، ويمكن أن يكون وهماً، فدلَّ على الصلاة في الناحية، أي مُنَتَحِياً عنها. وقد مرّ مني ترجمته في الهندية: يكسو هوكر. وقد مرَّ عن ابن حَزْم أنه ذَهَبَ إلى نَسْخِه، وقال: إنه منسوخٌ بما وَرَدَ في تطييب المساجد وتنظيفها عند أبي داود بسندٍ قوي، ولا أدري ما حَمْلَه على النَّسْخ، إلاّ أن يكونَ اختار نجاسةَ الأزبالِ والأبوالِ. قلتُ: أمّا كونه منسوخاً، فالله أعلم به، ولكن ما تحقَّق لدي هو أنَّ المطلوب من هذه الأمة ابتغاءُ الوقت ومراعاتها، بخلاف بني إسرائيل، فإِنهم كانوا مأمورين بابتغاء الأمكنة، وكانت مُرَاعَاتُها عندهم أهم من مُرَاعَاة الأوقات، ولذا كانوا يطلبون البِيعَ والكنائس عند صلواتهم، ثم لمَّا بُنِيت المساجد أُمِرْنا بتقيُّد المساجد أيضاً. فالصلاة في المَرَابِض إنما كانت قبل بناء المساجد، كما في البخاري في باب الصلاة في مَرَابِض الغنم، عن أنس: «كان يُصَلِّي في مَرَابِض الغنم قبل أن تُبْنَى المساجد». وفي هذه الصفحة قبله بقليل: «وكان يُحِبُّ أن يُصَلِّي حيث أدركته الصلاة، ويُصَلِّي في مَرَابِض الغنم». وفي باب قول الله عزّ وجلّ: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرهِيمَ خَلِيلاً} (النساء: 125): ثنا إبراهيم التَّيْمي، عن أبيه قال: «سمعت أبا ذرٍ قال: قلتُ: يا رسول الله، أيُّ مسجدٌوضع في الأرض أوَّل؟ قال: المسجد الحرام. قلتُ: ثُمَّ؟ قال: المسجد الأقصى... ثم أَيْنَما أَدْرَكَتْكَ الصلاة، فصلِّه، فإِن الفَضْلَ فيه». فدلّ على أنَّ الاعتناء أولاً كان بموضع تُدْرِكُهُ الصلاة فيه، ولَمَّا كانوا يَسْكُنُون في المَرَابِضِ، كانوا يُدْرِكُون وَقْتَها فيها، فكانوا يُصَلُّون هناك لهذا. ولذا قَرَنَ الرَّاوي بين الصلاة في المَرَابِض، وبين أَحِبِيَّة الصلاة حيث أَدْرَكَتْهُ، فهذا بمنزلة التَّرَقِي، يعني أنه كان يحب الصلاة، ولو أدركته وهو في المرابض، فَيُصَلِّي فيها أيضاً. أما أدلة النَّجاسة، فأقول: أولاً إنه يُعْلَم من سِيَاق القرآن نحاستها، لأنه عَدَّ الفَرْث مع الدم، وقال: {نُّسْقِيكُمْ مّمَّا فِى بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَآئِغًا لِلشَّارِبِينَ} (النحل: 66)وأمّا عند الترمذي: «أنه صلى الله عليه وسلّم نَهَى عن أكل الجَلالٍة وألبانها»، وفي القاموس: الجَلَّة البَعْرة. فَعْلِمَ المناط، ولا منعنى فيها إلا أنها نَجِسَة، وفي الحديث: «من دَخَلَ المسجد، فَلْيُمِطُ الأَذَى عن نَعْلَيْه»، وقَصْرُه على عَذِره الإِنسان مستبعدٌ جداً. «وأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم نَهَى عن الصلاة في المَزْبَلة». «وأنه ألقى الرَّوْث، وقال: إنها رِكْسٌ». وأمّا ما نُقِل من أثر أبي موسى، فلا دليلَ فيه على أنَّ صلاتَه كانت على السِّرْقين، وإنما يُشْتَرَطُ للصلاة طهارة موضع أعضاء السجود، لا غير كما في «فتح القدير». وقي القُدُوري: أن الفرضَ في السجود وَضْعُ الجبهة وإحدى الرجلين فقط، إلاّ أن الصلاة تُكْرَه عندنا إذا كانت النجاسة في حواليه أيضاً. فأثره وإن كان الظاهر منه الطهارة، إلاّ أنه لا يتعيَّن في النجاسة.
شَرَع المصنِّف رحمه الله تعالى في بيان مسألة المياه، وقد مرَّ بعض ما يتعلَّق بها في باب الماء الذي يُغْسَلُ به شعر الإِنسان... إلخ، وقد قدَّمنا أنَّ المقصودَ هناك كان ذكر مسألة الأسار، وكان ذكر الماء تَبعاً لكونه محلاً لوقوع هذه الأشياء. وأمَّا المقصود من هذه الترجمة فهو ذكر مسألة المياه أصالةً. وذكر الأنجاس فيها، لكونها واقعةً فيها، فَبَيْنَ الحال والمحل رَبْطٌ يُوجِبُ ذكر أحدهما عند ذكر الآخر. وهكذا فَعَلُوه في كُتُب الفقه، فيذكرون الأنجاس في باب المياه، ثم يَقْعِدُون لها فصلاً أيضاً، وذلك لَما نَبَّهُنَاك عليه آنفاً. قوله: (وقال الزُّهْرِيّ: لا بَأْسَ بالماء ما لم يُغِيِّرْهُ طَعْمٌ أو رَيحٌ أو لَونٌ)، هذا صريحٌ في أنه دَخَلَ في مسألة المياه، ثم في تلك العبارة الطَّعْمُ وغيره: صفاتٌ للأشياء الساقطة، وفي المشهورة: وجعلوها صفاتٍ للماء، فقالوا: «ما لم يغيِّر طعمه، أو ريحه، أو لونه». قوله: (قال حَمَّاد: لا بأس بريش الميّتَة)، وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى في الأجزاء التي لا تتداخلها الحياة، كعظم الميتة، وقُرُونِها، وَشَعْرِها، وَوَبرِها. قوله: «قال الزُّهْرِي في عظام الموتى، نحو الفيل)... إلخ، انتقل فيه إلى ملحقات الباب، والفيل نَجِسُ العين عند أبي يوسف رحمه الله تعالى، وهو ما يكون حراماً بجميع أجزائه، ولا يكون شيءٌ منه مستثنىً ممَّا يُسْتَثْنَى من سائر الحيوانات. قوله: (وقال ابن سِيرِين وإبراهيمُ: لا بَأْسَ بتجارة العَاجِ)، إنما ذكره لمجرد التَّنَاسُب، وإلا فأصل مسألة الطهارة والنجاسة تَتعلَّق من اللحم، ثم تَسْرِي إلى السؤر، فإِنَّ السؤر يَتْبَعُ اللحم. أمَّا المُلابَسة به، والمعاملة معه، فذلك من المتعلَّقات البعيدة، بقيت التجارة، فإِنها تُبْنَى على المِلْك، دون الطهارة والنجاسة. ثم الشيء إذا تنجَّس، هل يَنْقَطِعُ منه الانتفاع أصلاً أم لا؟ فقال الحنفية رحمهم الله تعالى في دُهْنٍ سقطت فيه فأرة: أن بَيْعَه والاسْتِصْبَاحَ به كله جائزٌ، غير أنه لا يُسْتَصْبَحُ به في المساجد، فدلّ على جواز الانتفاع في الجملة. وأمَّا في شَحْم الميتة، فَحَجَرُوا عنه الانتفاع مطلقاً، حتى لم يجَوِّزُوا تَطْلِيَة السُّفُن أيضاً. فلمّا لم يكن جَوَاز الانتفاع دليلاً على الطهارة ضابطة مطردة، لم يكن في جَوَاز بيع أجزاء الميتة دليلٌ على طهارتها. أما مسألة المياه، ففيها خمسة عشر مذهباً للعلماء، ونذكر منها أربعة، وسها مولانا عبد الحي رحمه الله تعالى في «حاشية الموطأ» في نقل مذهب الظاهرية. وقد عَلِمْتَ سابقاً أنَّ مالكاً رحمه الله تعالى اعتبر التغيُّر وعدمه، وللمالكية رحمهم الله تعالى ثلاثة أقوال كما في «مختصر ابن الحاجب»، وأشهرها: أن العِبْرَة بالتغيُّر وعدمه، فلو سَقَطَتْ قَطْرَةٌ من البول في قَدَح من الماء لم يَتَنَجَّسْ. وذَهَبَ أحمد رحمه الله تعالى في روايةٍ غير مشهورةٍ عنه، كما في «فتاوى ابن تَيْمِيَّة» رحمه الله تعالى إلى الفَرْق بين النجاسة الجامدة والمائعة، فالجامدة إذاً وَقَعَتْ في الماء وأُخْرَجَتْ من ساعته، لم تُنْجِّسْ، بخلاف المائعة. أمَّا إذا غيَّرت الماء، وظَهَرَ فيه أثرها، فذلك ممَّا لا خِلافَ في نجَاسته، سواء كانت جامدةً أو مائعةً. أمّا مذهب الإِمام أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى، فَغَنِيٌّ عن البَيَان. إِذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم: أن الشارحين عامةً ذَهَبُوا إلى أن البخاري رحمه الله تعالى اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى، وذلك لأنه أَخْرَجَ حديث الفأرة، وفيه: «أَلْقُوها وما حولها، وكُلُوا سَمْنَكم»، فدل على أنَّ الباقي طاهرٌ، ولأثر الزُّهْرِي الذي مرَّ في ترجمة الباب. قلتُ: ولا دليلَ فيه على ما قالوا، والظاهر عندي: أنَّه اختار الروايةَ الغيرَ المشهورة عن أحمد رحمه الله تعالى التي ذَكَرْنَاها، وذلك لأنه أخرج أولاً حديث الفأرة، وهي نجاسةٌ جامدةٌ، وأَمَرَ النبي صلى الله عليه وسلّم فيه بأكل السَّمْنِ بعد إِخراجها، وطَرْح ما حولها. ثم بوَّب بالبول، وهو نجاسةٌ مائعةٌ، وأَخْرَج فيه حديثاً يَدُلُّ على النجاسة، فَخَرَج أن حكم المائعة، على خلاف حكم الجامدة، فَثَبَتَ الجزءان من الحديث. وتلك الرواية لَمَّا لم تَكُن مشهورةً فيما بين القوم، لم يَنْتَقِل إليها أذهانهم، فَحَمَلُوا كلام البخاري رحمه لله تعالى على مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولعلَّ أمر الطَّرْح حينئذٍ لا يكون عنده إلا على الاستحباب. فالكلام هنا في أربع مواضعٍ: الأول في مختار البخاري رحمه الله تعالى عندي، وإيضاحه. والثاني في مختاره عند الشارحين، وإيضاحه. والثالث في الجواب عمَّا تمسَّكَ به الشَّارِحُون من كلامه، والرابع في الجواب عن استدلال البخاري، سواء كان مختاره ما نَسَبَهُ إليه الشارحون، أو ما حقَّقْتهُ. أَمّا الأوَّل فقد عَلِمْتَهُ آنفاً. أمّا الثاني، فقد عَلِمْتَ: أن البخاري رحمه الله تعالى اختار عندهم مذهب مالك رحمه الله تعالى، ولعلّه حملهم على ذلك أمران: الأول أنه بَوَّبَ في المجلد الثاني وقال: باب إذا وقعت الفأرةُ في السَّمْن الجامد والذائب... إلخ، فعمَّم بالنوعين، والثاني أنه علَّل الزيادة التي رُوِيَتْ في هذا الحديث، وهي: «فإن كان مائعاً، فلا تَقْرَبُوه». قال الترمذي بعد إخراج هذه الزيادة: سَمِعْتُ محمد بن إسماعيل يقول: حديث مَعْمَر، عن الزُّهْرِي، عن سعيد بن المُسَيَّب، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبي صلى الله عليه وسلّم في هذا خَطَأْ. فدلّ الأمران على أن حكمَ الجامد والمائعَ عنده سواءٌ خلافاً للجمهور. وهذا إنما يَصِحُّ على مذهب مالك رحمه الله تعالى فقط، فإِنَّ العِبْرَةَ عنده بالتغيُّر وعدمه، والجامدُ والمائعُ في ذلك سواءٌ، بخلاف الحنفية والشافعية رحمهما الله تعالى، فإِن القليلَ المائعَ عندهم يَتَنَجَّسُ بوُقُوع النجاسة مطلقاً، لعدم إمكان خُلُوصها منه، بخلاف الجامد، فإِنك لا تَطْرَحُ من الذائب شيئاً، إلا ويَخْلُفُه غيره قبل طَرْحِك منه. وبالجملة فرَّق الجمهور بين الجَامِد والمَائِع لِمَا قام عندهم من الدليل، بخلاف مالك رحمه الله تعالى، فإِنه مرّ على أصله، فلمّا سوَّى البخاري بين حكم الجامد والذائب في حكم الطهارة، كما صَرَّح به في المجلد الثاني، وعلَّلَ الزيادة التي تُبْنَى على الفرق بينهما، تَحَدَّسَ للشارحين أنه اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى، وهذا إيضاحُ قولهم. أمّا الثالث، وهو الجواب عنه، فأقول إن تعميمَه في الترجمة الثانية، لا يَنْحَصِر فيما زَعَمُوه، وذلك لأنه يمكن أن يكون أَتَى بِلَفْظِ الجَامِد تَبَعاً للحديث، وأضاف عليه الذَّائِب من قِبَلِهِ توجيهاً للناظر إلى طلب حكمه، فإِنك تَعْلَمُ أن كتابه يحتوي على مسائل الفقه أيضاً، فلا دليلَ فيه على تَسْوِيَة حكمها عنده. وكذلك جواب الزُّهْرِي لا يتعيَّن أن يكونَ للجامد والذائب كليهما، وإن وَقَعَ السؤال عنهما، بل يُمْكِن أن يكونَ أَجَابَ عن الجَامِد لأجل وُرُود الحديث فيه؛ وسَكَتَ عن حكم الذائب. وأمّا ما شَرَحَهُ الحافظ رحمه الله تعالى، فلا أَرْضَى به، وكذا لا دليلَ في إعلاله الزيادة على ما قالوا، فإِنه يُمْكِن أن يكونَ لحالها في نفسها، لا لحال المسألة، بل هو الظاهر. وتَحَصَّل ممَّا ذكرنا أن البخاري لم يَخْتَرْ مذهب مالك رحمه الله تعالى عندي، بل اختار روايةً غير مشهورةٍ عن أحمد رحمه الله تعالى، وهي الفَرْق بين النجاسة الجامدة والمائعة. أمّا الجواب عنه، هو الموضع الرابع، فبأن الحديث الذي أَخْرَجه يَدُلُّ على أنه في الجامد، وليس في الذائب، لِمَا قال ابن العربي: أن السَّمْنَ لو كان مائعاً، لم يكن له حولٌ لأنه لو نُقِلَ من أي جانب مهما نُقِل لخَلَفَه غيره في الحال، فَيَصِيرُ هو أيضاً ممَّا حولها، فيحتاج إلى إلقائه كلِّه، فليس في الحديث دليلٌ على التَّسْوِية بين حكم الجامد والمائع. ونُقِلَ أن عبد الله بن أحمد سأل أباه أحمد رحمه الله تعالى: أن الطرح إِنما يُمْكِنُ في الجامد دون المائع؟ فَغَضِبَ عليه أحمد رحمه الله تعالى، وأجاب: أنه تَطْرَحُ حَيْثَة منه. قلتُ: وهذا لا يُتَصَوَّرُ إِلا إذا كان الإِناء وَسِيعاً، والشيء مائعاً ثخيناً، أمَّا إذا كان الإِناء عميقاً كالجَرِّ، والشيء رقيقاً لا يُتَصَوَّرُ فيه ما قال. ولعلَّه غَضِبَ عليه، لأنه ضَاقَ عليه جوابه. ثم إن عبد الله هذا حافظٌ، ومن أجله كُنِّيَ أحمد بأبي عبد الله، وله أخٌ واسمه صالح. وبالجملة: أن الإِلقاء لمَّا لم يُتَصَوَّر إِلا في الجامد، تعيَّن ما لا يُتَصَوَّر فيه الإِلقاء، وهو الذائب نَجِسٌ. فحديث البخاري وإن لم يَدُل عليه بمَنْطُوقه، لكنه بمَفْهومه دليلٌ على الفرق بين حكم الجامد والذائب. ثم مَفْهُوم حديثه، قد جاء مَنْطُوقاً في حديث عند أبي داود عن أبي هُرَيْرَةَ، والنَّسائي عن مَيْمُونَة، وحينئذٍ مَفْهُومه مؤيَّداً بِمَنْطُوقٍ صريح الحديث. بَقِيَ إعلاله، فالجواب عنه أنه صحَّحها إسحاق بن رَاهُويه، والذُّهْلي في «الزهريات» كما في الفتح. فظهر مما قُلْنَا: أنه لا دليلَ عنده على التَّسْوية بين حكم الجامد والذائب من نصِّ الحديث، بل حديث البخاري بِمَفْهُومه، وحديث أبي داود والنَّسَائي بِمَنْطُوقه صريحٌ في التَّفْرِقَة بينهما، وهذا هو مذهب الجمهور. ثم نَقَلَ الحافظ في كتاب الأطعمة تحديد ما يُلْقَى، فَرَوى عن عطاء بن يَسَار أنه قَدْر الكفّ. قلت: لو كان المصنِّف رحمه الله تعالى اختار مذهب مالك رحمه الله تعالى لكان لهذا النقل فائدةٌ، أما إذا علمت أنه لم يذهب إليه فلا طائل تحته. نعم ههنا شيء، لعله يختلج في صدرك، وهو أنَّ الأحاديث في نجاسةِ الماء بوقوع النجاسات كلها في المائعات غير حديث الفأرة، فذلك يؤيد رواية أحمد رحمه الله تعالى، أعني الفرق بين المائعة والجامدة. فحديث وُلوغ الكلب والنهي عن البول في الماء الدائم، وحديث المستيقظ كلها في النجاسة المائعة. قلت: تلك الأحاديث إنما جاءت على الوقائع في الخارج، فإِنه لا يتفقُ في الماء الدائم إلا البول لا سيما لأَعراب العرب، فإِنهم لم يكونوا يحترزون عنه، بخلاف الغائط، فإِنه لا أحد يفعله بل يتقذره بطبعه، فلاة حاجة إلى النهي عنه. وكذا لا يتفق في البيوت إلا ولوغ الكلب والهرة، أو وقوع الفَأْرة، وفي الفَلَواتِ إلا ولوغ السِّباع، وكذا من عادات العامة غَسْل الأيدي والوجه بعد الاستيقاظ، ولا بد له من إلقاء اليد، لأن أوانِيهم لم تكن ذوات آذان، فأخذت الأحاديث تلك الوقائع كلها لهذا لا أنها جاءت بما تُنبىء عنه روايةٌ شاذةٌ عن أحمد رحمه الله تعالى. واعلم: أنه لم يصنف أحدٌ، كتاباً في مختارات الإِمام البخاري كما صنفوا في مختارات سائر الأئمة، فالنظر فيها يدور على تراجمه فَيَجُرَّهَا كلٌّ من أهل المذاهب إلى جانبه ويفسِّرُها حسب مسائله، مع أنَّ البخاري عندي سَلَك مَسْلَك الاجتهاد ولم يقلِّد أحداً في كتابه، بل حَكَم بما حكم به فَهْمُه، ولذا أَوفى حقَّ تراجمه أولاً، ثم انظر أنه هل وافق أحداً أَم لا؟ ولمَّا لم يدوِّنْ فِقْهَهُ ساغ لي أيضاً أن أعزو إليه ما أفهم من تراجمه، ولذا قد أخالف الشارحين في مختاره كما فعلت في تلك الترجمة. وبعد فليس هذا، إلا ظن أو احتمال، والعلم عند الله العلام، فإن المصنِّف رحمه الله تعالى لو أفصح بِمُرَاده لحكمنا بالجَزْم، ألا أنه كثيراً ما يذكر مادة الجواب ثم لا يُفْصِحُ به، فيتردد النظر في شَرْح جوابه وذلك غير قليل في كتابه، ومثل ذلك له مقاصدُ أخرى تَعْلَمُها في مواضعها. قوله: (اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّم) وجه تَنَاسُبه مع الباب أن الاعتبار للمعنى دون الصورة، كما أن دمَ الشهيد دمٌ صورةً إلا أنه مِسْكٌ معنىً. فكذلك العبرة في الماء للمعنى وهو التغيُّر وعدمه، وكأنه دفع ما يَرِد: أن النجاسة إذا وقعت في الماء فكيف يبقى الماء طاهراً؟ فأجاب بأن الاعتبار دون الصورة، فإذا وقعت في الماء ولم يتغير الماء فقد بقي على معناه وهو المعتبر في الباب، كما اعتُبِر في الدم. وقد يقال: إِنَّه يشيرُ إلى أنَّ العِبرة للغالب، فإذا كان ريحُ المسك غالباً على لون الدم كان في حُكْم المسك طاهراً. وكذلك الماء يُعْتبر فيه الغَلَبة. ويمكن أن يكون تَعَرَّضَ إلى العبرة بالأوصاف، فإنه ذَكَرَ في الترجمة الطَّعْم والريح، فأَراد التنبيه على أن الشيء يتغير بأوصافه كما أن الدم تَغَيَّرَ عن أصله لأجل ريح المسك، والله تعالى أعلم.
وقد تكلم الشارحون في مناسبة قوله: (ننَحْنُ الآخِرُون السَّابِقُون) مع الباب، وذهبوا في بيانها كل مذهب وأبعدوا بُعْداً بعيداً. والأمر أنَّ هذا الأعرج كانت عنده صحيفة تحتوي على أحاديث، وقد أخذ عنها البخاري أحاديث، كما أن عند مسلم أيضاً صحيفةً عن همَّام وقد أخذ عنها أيضاً، ثم يشير كلٌّ منهما إلى تلك الصحيفة بطريق مخصوص. أما البخاري فيذكر أول حديثه وهو: «نحنُ الآخِرُون السابِقون» ثم يخرِّجُ ما يكون مناسباً لترجمته، وأما مسلم فيقول: فَذَكر أحاديثَ منها هذا الحديث. فإِبداء المناسبة في هذه المواضع تَكَلُّفٌ بارد. والوجه ما قلنا: إنَّه إشارةٌ إلى كونِ هذا الحديث من الصحيفة التي أولها حديث: «نحنُ الآخِرُون، السابِقون...» إلخ، كإِشارة مسلم إليها بقوله: «فذكر أحاديث» وهذا الحديث منها. وقد فَعَل المصنف رحمه الله تعالى مثله في كتاب الجمعة. وكتاب الأنبياء. 239- قوله: (الماء الدَّائم الذي لا يَجْرِي) وقد تَعَسَّر الفَرْقُ على الناس بين الدائم والراكد، حتى كاد يختفي عليهم، فقال بعضهم: الذي لا يجري، صفة كاشفة، وعندي بينهما فرقٌ كثير، فالدائم للماء الذي يدوم أصلُه، ولا ينقطع، سواء كان تحته مددٌ كالبئر أو لا، والراكد ضد الجاري سواء كان دائماً أو لا. فالدوام باعتبار البقاء الزماني، وحينئذ قيد الذي لا يجري للاحتراز عما كان دائماً وجارياً، ولذا لا يذكر هذا القيد مع الراكد، فإِن الراكد معناه أنه لا يجري بخلاف الدائم، فإِنَّه قد يكون جارياً كالعيون، وقد لا يكون فاحتاج إلى هذا القيد. لا يقال: وحينئذ يقتصر النهي على الماء الذي لا يجري ولا يتناول الذي يجري. قلت: وفي «مجمع الزوائد» النهيُ عن الدائم الذي يجري أيضاً، ولكنه وَهْم عندي، فروى: «الذي يجري» مكان «لا يجري»، والحُكْم عندنا فيهما سواء، فلا يبول فيهما، والأمر في القيود سهل. 239- قوله: (ثُمَّ يَغْتَسِلُ فيه) وقد ذكرنا وجوه الإِعراب فيه في «درس الترمذي» والأمر عندي أنه على حدِّ قوله تعالى: {ثْمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ يَعْدِلُونَ} (الأنعام: 1)، كما قَرَّره الطيبي، فالنهي مقصور، على البول، وثم للاستبعاد وبيان المآل. وهذا الحديث لم يعمل به غيرُ أبي حنيفة رحمه الله تعالى، لأنه اعتبر الجريان وعدمه، وقال: إن الماء الجاري لا يتنجسُ بوقوع النجاسة، بخلاف غير الجاري، ولا تَعَرُّض في الحديث إلى القُلتين وغيرهما. والتغيُّرِ وعدمِهِ. ولذا قلت: إنَّ حديث القُلَّتين أجنبيٌّ في الباب ولا نعلم تناقُله عند المراجعات مع كون المسألة كثيرةَ الوقوع. فالذي يظهر من الحديث: أنَّ الماء الذي لا يجري يتنجس بمجرد وقوع النجاسة، وإِلا لكان البولُ فيه كَسَكب الماء، ولكان الجاري وغيره مساوياً، فلم يكن للتقييد معنى. وأجاب عنه ابن تيمية بوجوهٍ قد استوفينا الكلام فيه في «درس الترمذي» منها: أنَّ البولَ فيه ليس لمعنى النجاسة كما زعمتُم، بل لأنَّ البول في الماء الدائم يوجِب تغَيُّرِه ولو بعد حين، فإِنَّه لو لم يَنْهَ عنه لاعتاد الناس البولَ فيه، فنهى عنه لهذا. قلنا: وإن كان كلامه لطيفاً إلا أنَّه يخالف الحديثَ وفَهْم الراوي أيضاً، لأنَّ الحديثَ يَسْتَبْعِدُ الاغتسالَ بعد البول. وفي رواية: «ثم يتوضأ منه» ولا استبعاد فيه، ألا أنه يتطهر مما نجَّسَه بنفسه ولا إيماء فيه إلى التغير ولا بناء عليه، لأنه استبعد البول ثُم الغُسْل في الحالة الراهنة لا بعد التَّغَيُّر. وأيضاً أخرج الطحاوي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه لمَّا سئل عنه قال: «لعله يَمُرُّ به أخوه المسلم فيشرب منه ويتوضأ». فدل على أنه بعد البول لم يبق صالحاً للشرب والوضوء. وإنما قال: «لعله يمرُ به أخوه المسلم» لأنَّ الشربَ أو التوضؤ ممن بال فيه أبعد وأبعد، فلا يتفق إلا ممن يمر من إخوانه بعده فلا يرى فيه نجاسة في الظاهر فيشرب منه، مع أنه نجس. ومن ههنا عُلِم أن النهي في الحديث ليس من جنس النهي عن التنفس، والبُزَاق في الماء، والتغوط تحت الشجرة، فليس من باب الآداب، ولكنه من باب النجاسة قطعاً. ومنها أَنَّ البولَ نجسٌ، والماء طاهر، إلا أنه لما كان مائعاً لا يمكن تميزه عنه يقيناً معطلين عن استعماله، فتعطيلُه لأجل عدم تميُّزِ النجاسة منه لا لتنجُّسِه. قلت: وهذا عجيب لأنه لا معنى للتنجس إلا اختلاط النجاسة بحيث لا يتميز، وكذا التعلل باستحالة البول وعمده كلّه تفلسف. والحاصل: أنه لم يَعْمل بظاهره إلا إمامُنا، فإِنه لم يفرق بين الراكد والجاري إلا هو، وألغاه الآخرون، فمنهم مَنْ قَسَمَ المياه باعتبار التغير وعدمه، ومنهم مَنْ جعل المدار على القُلَّتين، ولم يعتبر أحد منهم الفرق بين الركود والجريان إلا الإمام الهمام. وكذا لم يعتبر أحد منهم تقسيم الماء الفطري، فإِنه خلق على ثلاثة أنحاء، فراعينا. وأعطينا حُكْم كلِّ قسم على حِدَة كما حكم به الشرع، وهَدَرهُ وجعلوها كلها بمنزلة واحدة فاضطروا إلى التأويلات، والله تعالى أعلم.
(قوله): قَذَر كندكى نُسب إلى مالك رحمه الله تعالى أن طهارةَ الثوب عنده من سُنن اللباس لا من شرائط الصلاة، وكذا طهارةَ المكان سُنةٌ عنده. وذهب جماعة منهم إلى أنها من واجبات الصلاة وليست شريطة للصلاة، كما في «الفتح». وذكر الباجي في «شرح الموطأ» القولَ الأولَ. وظني أن المصنِّف رحمه الله تعالى فرَّق بين الابتداء والبقاء: فلو دخل في الصلاة طاهراً، ثم أُلقي عليه قَذَرٌ بدون صُنْعِه لم تَفْسُد صلاته. ونحوه عن أبي يوسف رحمه الله تعالى: أن رجلاً لو سجد على موضعٍ نجس، ثم تَنَبَّه من فوره وسجد على مكان طاهر ولم يَمْكُث قَدْر ركنٍ جازت صلاتُه. فدل على الفرق بين الابتداء والبقاء عندنا أيضاً، إلا أنه اشترط الفور. والمصنِّف رحمه الله تعالى وإن لم يفصل بين الفور وعدمه إلا أنه فصل في حالة الاختيار وعدمه، ولعله يتحمل التمادي أيضاً. قوله: (أو جَنَابةٌ)، وقد مرَّ أنه يدل على نجاسة المَنِيِّ عنده. قوله: (لغيرِ القِبْلَة) فإِن كان بعد التحرِّي فكذلك المسألة عندنا، وإن كان بدون التحري فإِنه يعيدُها عندنا. ثم إن هذه واقعة قبل الهجرة «سَلَى» بجه دان، وترجمته: «أو جهري» غلط (منعة) حامي. (يحيل) يعني يقول هذا الآخر: ما فعلت، ويقول له الآخر: ما فعلت تهكُّماً. وفي نسخة: «يجيل» أي كأن يسقط أحدُهما على الآخر. 240- قوله: (دعَا عليهم) ولا تفصيل فيه أن هذا الدعاء كان خارجَ الصلاة أو داخلَها. وظاهر «الفتح» أنه كان بعد الفراع عن الصلاة. ثم إنه إن ضَمَّ معه كلمة الدعاء «له» أو «عليه» فقال: اللهم عليك بزيد، أو اللهم اهد لزيد، ففيه قولان، ففي قول تَفْسُد، وفي قولٍ آخَر لا تَفْسُد. أقول: وهذا الأخير أختارُ فلا إشكال. أما تمسُّك البخاري بالحديث ففيه نظر، أما أوَّلاً: فلأنه لا يدري أنها كانت فريضةً أو نافلةً. وثانياً: أنه أعادها أم لا؟. وثالثاً: أنه لا دليل فيه على أنه كان يعلم أن على ظهره سَلَى جَزُور بخصوصه. ويمكن أن يكون أحسَّ منه ثِقْلاً فقط بدون علمه ما هو. ورابعاً: أنه ما الدليل على أنه تَمادى في صلاته لأنها كانت جائزة؟ لمَ لا يجوز أن يكون تَمَادَى عليها إبقاءً لأَثَرِ الظُّلم واستغاثةً في جَنَابِه تعالى، وَتَرَحُّماً منه كما قال في قصة حمزة رضي الله عنه: «لولا صفيته لتركته تأكُلُهُ السِّباع». فهذا أيضاً من باب إبقاء أَثر الشهادة، وتكميل أثر الظلم. وكما في بئر معونة حيث استُشهد رجلٌ منهم وجعل يُلَطِّخ وجهه بدمه يقول: «فزت وربِّ الكعبة» فهذا أيضاً إبقاء للحالة المحمودة وهي الشهادة، فكذلك يمكن هنا أيضاً. وخامساً: أنه لا دليل فيه على أن هذا السلا كان نجساً، وفيه نظر لما في طُرُقه: «سلا جزور بين فرث ودم» وسادساً: لما في «سيرة الدِّمياطي»: أنها كانت أول واقعة دعا فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم على أَحَد ولم يثبُت منه قبلها دعاءٌ على أحد فهل يصِح التمسكُ من هذه الواقعة الشاذة الفاذة، التي ترك فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلّم عادته المسمرة؟ يمكن أن يكون دعاؤه صلى الله عليه وسلّم لحال النجاسة، فلو كان الدعاء لحال النجاسة لم يَجُز التمسك به أصلاً، فإِنه لا يدل إذَن على أن صلاته تلك كانت جائزةً مع النجاسة، بل الأقرب أنها كانت بَطَلت فحزِن عليها، ولأجل ذلك دعا عليهم. ثم في «الفتح» في المجلد الثامن عن تفسير ابن المنذر: أن هذه الواقعة قبل نزول قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} (المدثر: 4) وإنما نزلت تلك الآية بعد هذه الواقعة، فانفصل الأمر. ومن ههنا تَبيَّن أن الآية إنما سِيقت لاشتراط طهارة الثياب، لا لطهارة الأخلاق كما قالوا.
وأجمعوا على طهارته إلا أنه نُسب إلى سلمانَ الفارسيّ أنه نَجِسٌ بعد تَفْله. قوله: (وما تَنَخَّمَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم ... إلخ وقد مرَّ معنا أنَّ طهارةَ فضلات النبيّ صلى الله عليه وسلّم توجد في كتب المذاهب الأربعة، ثم لا أدري أنها منقولةٌ عن الأئمة أم لا؟ إلا أن القَسْطَلاني نَقَل طهارتها عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى بحوالة العيني ولم أجدها فيه، ولخفاء تلك المسألة لم يُفْصِح بها البخاريُّ في كتابه، ومشى في كتابه على التسوية بينها وبين فضلات سائر الناس في أمر الطهارة والنجاسة، وهكذا فعل في الماء المستَعمل، وضُعِّفَت رواية نجاستِه عن الإِمام درايةً وروايةً، لإِنكارها مشايخ العراق مع كونهم أثبت.
واعلم أنَّ مَحَلَّ الخلافِ فيما إذا أُلقيت في الماءِ تُمَيراتٌ حتى صار حلواً رقيقاً غير مطبوخ ولا مُسْكر، فإن أَسكر أو طبخ فلا خلاف في عدم الجواز كما في «المبسوط». وفي «البحر» نقلاً عن قاضيخان: أن الإِمام رجع عنه إلى مذهب الجمهور، والطحاوي أيضاً تركه ولم ينتصر للمذهب المرجوع عنه، وأخرج له الترمذي حديثاً، وأبو داود، إلا أنه تكلم فيه بوجوهٍ كلها مدفوع، منها أن في إسناده أبو زيد وهو مجهول. ودفع بأنه مولى عمرو بن حُرَيْث رَوَى عنه راشد بن كَيسان العبسي وأبو روق، كما صرَّح به ابن العربي، مع وُرُوده عن أربعةَ عشرَ طريقاً بسطها العيني في «شرح البخاري». ومنها أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يكن في تلك الليلة، ودفع بأن ليلة الجن متعددة، كما في «آكام المرجان في أحكام الجان» والمشهورة منها ما في القرآن، وهي الدائرة على الألسنة، فأراد بالنفي كونه في تلك الليلة خاصة. وعند الترمذي في باب كراهية ما يُسْتنجى به، قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث إسماعيلُ بن إبراهيم وغيره عن داود بن أبي هند، عن الشَّعْبي عن علقمة، عن عبد الله أنه كان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن الحديثَ بطوله. وهذا صريحٌ في كونه في واحدٍ منها. ثم إن الزيلعي أخرج طُرُقَ هذا الحديث، وفي سنده عليُّ بن زيد بن جُدْعان، وأخرج عنه مسلم مقروناً مع الغير، واتفقوا على أنه صدوق إلا أنه سيِّىء الحِفْظ. قال ابن دقيق العيد: إنه أحسنُ من حديث أبي زيد، ولم أَرَ أحداً من المحدِّثين صحَّح حديثاً من أحاديث الوضوء بالنبيذ. وقد مرَّ ابن تيمية على تلك المسألة في «منهاج السنة» وتكلم كلاماً لطيفاً جداً، ورأيتُ روايةً لم أر أحداً منهم يتمسك بها: أخرجها الزَّيْلعي عن الدارقطني، وفي إسناده سَهْوٌ من الكاتب في موضعين: الأول: أنه كَتَب «هاشم بن خالد» مع أنه «هِشَام بن خالد» وهو من رواه أبي داود، أخرج عنه في باب الرجل يموتُ بسلاحه، وباب فِيمَنْ سأل اللَّهَ الشهادةَ. والثاني: أن في آخر سنده ابنَ غَيْلان. قال الدارقطني: إنه مجهول. قلت: بل هو عمرو بن غَيْلان كما سماه الزَّيْلعي بعده بقليل. وفي «الإصابة»: أنه صحابي صغير، وفي بعض طرقه عبد الله بن عَمرو بن غَيْلان، وهو من رجال ابن ماجه. وعَدَّه في «السنن الكبرى» تحت المَسْح على الرجلين من العلماء. والصحيح عندي أن عَمرو بن غَيْلان. وبعد هذا التصحيح يمكن تصحيحُ الحديث أيضاً، ولا أقلَّ مِن أن يكون حَسَناً لذاتِه. ثم إن بعض السلف أيضاً ذهبوا إليه، منهم سفيان وغيره، وهكذا صرَّح له الترمذي وفيه: قال إِسحاق: إن ابتُلي رجلٌ بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحبُّ إليَّ. ومِثْله رواية عندنا أيضاً. قلت: وذهب إليه الأَوزاعي أيضاً وبعضٌ من التابعين، كما في «مصنَّف ابن أبي شَيْبَة». ثم إن الترمذي قال: وقول مَنْ يقول: لا يتوضأ بالنبيد أقربُ إلى الكتاب وأشبه، لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُواْ مَآء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيّباً} (المائدة: 6). قلت: ولعله يشير إلى أن القول بجواز الوضوء بالنبيذ زيادةٌ على الكتاب. قلت: والزيادة عليه إنما تمتنع عندنا فلو كان فيه إشْكال لكان على مذهبنا. أما على مذهب الشافعية فإِنهم يجيزون الزيادة بخبر الواحد، فعبارتُه أقرب إلينا في مسألة الأصول. والحل عندي أن النبيد وإن كان ماء مقيداً ألا أنهم يُحُلونه محل المطلق، لأنهم كانوا يجعلون الماء المالح حلواً بهذا الطريق، كتبريدنا الماء بالثلج فيلقون فيه تميراتٍ ليظهر حلاوتها، ثم يشربونها. وإنما كانوا يفعلون هذه لعِزَّة الماء الحلو عندهم، وهذا الطريق كان معروفاً كما في «بلوغ الأرب في أيام العرب» والكِرماني، وحينئذ دار النظر فيه، فإِن نظرنا إلى الاسم فهو مقيَّد، وإنْ رأينا مَحَل استعماله فهو مطلقٌ، وإن شئت قلت: إنه كان ماءً مطلقاً عندهم عُرْفاً، ولهذا التردد جاءت رواية التيمم مع الوضوء وراجع له «العقد الفريد» وكتاب «الناسخ والمنسوخ». قوله: (ولا بالمُسْكِرِ) والحديثُ يخالف أبا حنيفة رحمه الله تعالى في مسألة المسكرات، ويوافق الجمهور. وغرض البخاري منه أنه إذا كان حراماً فعدم جواز الوضوء منه أظهر. قلت: ومسألة المسكر وإن استنصر له الطحاوي وأجاد فيه، إلا أن تَوَاتُرَ الأحاديثِ يخالِفُه.
لا يريد بيان مسألة الدم فقط، بل نظره إلى خصوص من غَسْل المرأة، لأنه اختار أن مسَّ المرأة غيرُ ناقض. قوله: (عن وجهه) وإنما ذكره طِبْقاً للقِصَّة. قوله: (قال أبو العالية: امسحوا)... إلخ يعني قال هذا عند وضوئه. ومعنى المسح على اللغة لا على العرف الحادث بمعنى إمرارِ اليد المُبْتَلَّة.
|